نفي الرسول صفة الملائكية عن نفسه
قال: [ومنه قوله تعالى: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50] ] الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كثر عليه اقتراح الكفار وتعنتهم بإنزال الآيات والإتيان بالخوارق التي تضطرهم إلى الإيمان فأمر بأن يقول: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ...))[الأنعام:50]، وهم قد اتهموه أيضاً حيث لم يجعل له الله تعالى قصوراً وجنات تجري من تحتها الأنهار، وقالوا: فكيف يختار ويصطفى من قبل الله، وليس له ما يفضل به على العالمين، من مال وجاه؟ وكان لابد أن يرسل ملكاً لا إنساناً!!
وقد كان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير، ويأكل كما يأكلون، ولذلك قالوا ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7]؟! وقالوا: لا يمكن أن يكون رسولاً مرسلاً من عند الله، وهذه من تلبيسات الشيطان، ومن تلبيسات زعمائهم عليهم أيضاً، وهم منذ القدم يريدون أن يكون الرسول ملكاً وذلك غير ممكن عقلاً قال الله تعالى: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ))[الأنعام:9] فلو جاءهم ملك في صورته وهيئته الملائكية لقالوا: لا يمكن لنا أن نعبد الله ولا أن نجتنب الحرام لأننا لسنا كهيئتك فنحن أضعف وأميل إلى الشهوات.. بخلافك!! وإذا جاءهم في هيئة بشر فقال: أنا ملك، لكن على هيئة بشر، لقالوا: كذبت، وما يدرينا أنك ملك، وكذلك ويقدر أن يدعيها أي مدعٍ من الكاذبين، فيقول: أنا ملك ولكني في صورة بشر، فاسمعوا لي، وإن قال: أنا لست بملك أبداً وإنما أنا بشر مثلكم، فسنرجع إلى القضية الأساس، وهي أنهم يريدون ملكاً، فلا فائدة من هذه الاعتراضات.
الشاهد أنهم لما اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته، وطلبوا منه ما يعجز عنه، ولذا أمره الله أن يجيب عليهم بقوله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50].
هذا والله قد أعطى نبيه مفاتيح خزائن الأرض، كما في الحديث الصحيح، ووعده وأصحابه بكنوزكسرى وقيصر، وقد وقع ذلك للصحابة بفضل الله تعالى؛ لكن خزائن الله ليست عنده، يأخذ منها ويدع كما يشاء، حتى يعطي الكفار ليؤمنوا به.
وقوله: ((وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ))[الأنعام:50] يُكَذَّب الله ويأمر رسوله بتكذيب من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأن عنده علم كل شيء، حتى الأمور الخمس التي لا يعلمها إلا الله فقال: فهو يقول: ((وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ))[الأنعام:50].
وقال: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50] ولم يكتفِ بذلك بل أمر أن يقول: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[الكهف:110]، وقال لرجل رآه فهابه: {إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة} فهو صلى الله عليه وسلم ولد وعاش كما يعيش سائر الناس، وميزته إنما هي بالوحي، تلك الميزة العظيمة التي فضله بها ربه واصطفاه بها على العالمين.
ووجه الاستدلال ما ذكره في قوله: [ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي ولست ممن يدعي ذلك] وخلصوا باستدلالهم هذا إلى أن الملك أفضل.
[أجاب الآخرون أن الكفار كانوا قد قالوا: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ] والمعنى: لو قلت: إن عندي خزائن الله، لادعيت غير حقيقتي، فأنا لست إلهاً ولا ملكاً، ولا نزاع في أنه ليس كذلك، وغاية ما في الأمر التفريق بين الحقيقتين، الحقيقة الملائكية والحقيقة البشرية، وعلى هذا فليس في الآية دليل على التفضيل.
وليس نزاع المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ليس فوق منزلته في الدنيا، بل هم يقولون: لو كنت نبياً ورسولاً، لكانت منزلتك أعلى من هذه المنزلة، ولكانت حقيقتك غير هذه الحقيقة، لكن أنت حقيقتك عادية، فأنت بشر مثلنا، فتعجبوا وقالوا: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] مثلنا، وقد قال من قبلنا: ((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ))[المؤمنون:47] وقالوا: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا))[إبراهيم:10]، ولهذا لن نؤمن، ولو كان من جنس أعلى منا ومن حقيقة أعلى؛ لآمنَّا به، أما وهو من جنسنا، ومثلنا ولا فضل له علينا، فلن نتبعه.
[فأُمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم، أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب] وهو المشي في الأسواق للاكتساب [والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة].